فصل: تفسير الآيات رقم (14- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

المنافق‏:‏ هو من يُظهر الايمان ويبطن الكفر‏.‏ جنة‏:‏ بضم الجيم، وقاية‏.‏ طبع‏:‏ ختم عليها‏.‏ لا يفقهون‏:‏ لا يعلمون‏.‏ تعجبك اجسامهم‏:‏ لصباحتها وتناسُب اعضائها‏.‏ تسمع لقولهم‏:‏ لفصاحتهم وحسن حديثهم‏.‏ خشُب مسندة‏:‏ جمع خشبة، يعني انهم أجسام فارغة لا حياة ليها‏.‏ يحسبون كل صيحة عليهم‏:‏ فهم لشعورهم بالذنب وبحقيقة حالهم، يظنون أن كل صوت او حركة عليهم‏.‏ قاتلَهم الله‏:‏ لعنهم الله وطردهم من رحمته‏.‏

يؤفكون‏:‏ يصرفون عن الحق‏.‏ لوَّوا رؤوسهم‏:‏ أمالوها استهزاء‏.‏ يصدّون‏:‏ يعرِضون‏.‏

لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون، قد تستّروا بأيمانهم، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم، وهم يصدّون الناس عن الاسلام، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين‏.‏ وانهم جُبناء، فرغم ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم، يظنّون كل صيحة عليهم‏.‏

ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى‏:‏

‏{‏إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏‏.‏

فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون اليه ويحلفون عنده بانهم مؤمنون به- يكونون غير صادقين، والله يعلم ان سيدنا محمداً رسول الله، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله‏:‏

‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ‏}‏

كذبوا فيما أخبَروا به، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون، ‏{‏يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏.‏

ثم بين انهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين‏.‏

‏{‏اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏

جعلوا أيمانهم الكاذبة وقايةً وستراً لهم من افتضاح امرهم، فصدوا الناس عن سبيل الله‏.‏ فما أقبح ما هم عليه من الكفر والكذب‏!‏‏!‏

ثم بين الله تعالى انهم آمنوا بالاسلام قولاً ظاهرا، ولكنهم كفروا به عملاً، فطبع الله على قلوبهم ‏{‏فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

ثم وصف هيئاتهم الظاهرة والباطنة، فأجسامُهم في الظاهر حسنة تُعجِب الناس، ومنطقهم حسن، ولكلامهم حلاوة، أما في الباطن فهم خُشُبٌ لا فائدة فيها، اشباح بلا ارواح، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم‏.‏

ثم وصفهم بالجبن والذلة اذا سمعوا اي صوت او حركة ظنّوا انهم المقصودون، وان أمرهم قد افتُضِح‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ وأنهم هالكون لا محالة‏.‏ ‏{‏هُمُ العدو فاحذرهم‏}‏ ايها الرسول ولا تأمنهم ابدا‏.‏

ثم زاد في ذمهم وتوبيخهم فقال‏:‏

‏{‏قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ لعنهم الله وطردَهم من رحمته كيف يُصرَفون عن الحق الى ما هم عليه من النفاق‏.‏

ولما افتضح امرهم ونزل القرآن بصفتهم- جاءهم اقرباؤهم، وقالوا لهم‏:‏ افتضحتم بالنفاق، فتوبوا الى الله واذهبوا الى الرسول واطلبوا ان يستغفر لكم، فأمالوا رؤوسهم استهزاءً واستكبارا، ولم يقبلوا ذلك‏.‏

ثم بين الله ان هؤلاء المنافقين لا فائدة منهم، ولن ينفع معهم أيُّ شيء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

فالاستغفار وعدمه سِيّان، لا يُجديهم نفعا، لأن الله كَتَبَ عليهم الشقاء، بما كسبتْ أيديهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي‏:‏ خشب باسكان الشين‏.‏ والباقون‏:‏ خشب بضم الخاء والشين‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ لووا رؤوسهم بفتح الواو الأولى بلا تشديد، والباقون‏:‏ لووا رؤوسهم بتشديد الواو الاولى المفتوحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

حتى ينفضّوا‏:‏ حتى يتفرقوا‏.‏ ليُخرجنّ الاعزُّ منها الأذلَّ‏:‏ يعني ان المنافقين هم اصحاب العزة، والمسلمين هم الاذلاء كما يزعمون‏.‏ لولا أخّرتيني‏:‏ هلاّ أخّرتني‏.‏

عندما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني المصطَلَق ‏(‏وهم قوم من خزاعة من القحطانيين‏)‏ وهاجمهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد قرب الساحل- هزمهم وساق إبلهم واموالهم ونساءهم سبايا‏.‏ وكان في تلك الغزوة رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ‏.‏ وقد وقع شجارٌ بين غلام لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن ابي، وكاد يقع شر كبير بين المهاجرين والانصار لولا ان تدخّل الرسول الكريم وحسم الخلاف وسار بالناس باتجاه المدينة‏.‏

في هذه الاثناء قال عبد الله بن ابي‏:‏ لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا، واللهِ ما نحن وهم الا كما قال المثل‏:‏ «سَمِّنْ كَلبك يأكلك» أما واللهِ لئن رجعنا الى المجينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل، ثم قال لأتباعه‏:‏ لو أمسكتم عن هذا وذويه فضلَ الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفِقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد‏.‏

فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنقَ هذا المنافق، فقال له‏:‏ فكيف اذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل اصحابه‏؟‏

ثم قال رسول الله لعبد الله بن أُبي‏:‏ أنت صاحبُ هذا الكلام الذي بلغني، قال‏:‏ والله الذي انزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئا من ذلك، وان الذي بلَّغك لكاذب‏.‏ فنزلت هذه الآيات‏.‏

‏{‏هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏‏.‏

هؤلاء المنافقون- عبد الله بن ابي وأتباعه- يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله من المؤمنين حتى يتفرقوا عنه، ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض‏}‏ ولكنهم نسوا ان الله هو الرازق، وله جميع هذا الكون وما فيه من ارزاق يعطيها من يشاء، ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ لجهلهم بسنن الله في خلقه، وانه كفل الارزاق لعباده في اي مكان كانوا متى عملوا وجدّوا في الحصول عليها‏.‏

وهم الذين ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل‏}‏ يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين، ‏{‏وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فالله له العزة والغلبة، ولمن اعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين، ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

روي ان عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما اشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لابيه‏:‏ لله عليَّ ان لا أغمده حتى تقول‏:‏ محمد الأعز وأنا الأذل‏.‏ فلم يبرح حتى قال عبد الله بن ابيّ ذلك‏.‏

وبعد ان بين حالَ المنافقين وفضحهم وكشف دسائسهم ومؤامراتهم اتجه الى المؤمنين يؤدبهم بأدب القرآن، ويذكّرهم بان الاموال والاولاد والدنيا بأسرها لا قيمة لها من غير إيمان خالص، وانفاق في سبيل الله، وان كل انسان له اجل لا بد منتهٍ اليه، والله خبير بما يعملون‏.‏

فعلى المؤمنين ان لا يكونوا مثل المنافقين، فلا تلهيهم اموالهم ولا اولادهم عن ذكر الله آناء الليل واطراف النهار، وعليهم ان يؤدوا ما فُرض عليهم من العبادات‏.‏ ثم أمرهم ان ينفقوا اموالهم في سبيل الله، ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، فيقول احدهم‏:‏ ‏{‏رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين‏}‏‏.‏ ولكل نفس اجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقص ‏{‏وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ‏}‏ فعليكم ان تستعدوا للرحيل قبل حلول الأجل، وهيئوا الزاد ليوم المعاد‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏

ثم حذّرنا جميعا وانذرنا بانه رقيب على الجميع في كل ما يأتون ويذرون فقال‏:‏ ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ وهكذا يربينا الله تعالى بهذا القرآن الكريم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ فاصدق وأكن بجزم أكن على محل أصدق‏.‏ كان الكلام هكذا‏:‏ ان اخرتني أصدَّق واكن‏.‏ وقرأ ابو عمرو وابن محيصن ومجاهد‏:‏ واكون بانلصب عطفا على اصدق، والله أعلم، والحمد لله وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‏.‏

سورة التغابن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ذات الصدور‏:‏ الضمائر والسرائر‏.‏ النبأ‏:‏ الخبر الهام‏.‏ وبالَ أمرِهم‏:‏ عاقبة اعمالهم السيئة، وأصلُ الوبال‏:‏ الثقل والشدة، والوابل‏:‏ المطر الشديد، والطعام الوبيل‏:‏ الطعام الثقيل على المعدة‏.‏ البينات‏:‏ المعجزات‏.‏

تقدم الكلام على معنى التسبيح، وإن كل شيء في الوجود يسبح لله، وله الحمد على جميع ما يخلق ويقدّر لأنه مصدرُ الخيرات، ومفيض البركات‏.‏

‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

له قدرة مطلقة لا تتقيّد بقيد‏.‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

هو الذي خلقكم أيها الناس، فمنكم من كفر وجحد الألوهية، ومنكم المؤمن المصدّق، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «كلّ مولودٍ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانِه او ينصّرانه او يمجّسانه»‏.‏

‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏

فهو رقيب على المخلوقات فيما تعمل، فيجازيهم على اعمالهم‏.‏

ثم ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتمّ ما يكون من الحكمة والعدل فقال‏:‏

‏{‏خَلَقَ السماوات والأرض بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير‏}‏‏.‏

خلق هذا الكونَ بالحكمة البالغة، وصوّر بني الانسان في أحسنِ تقويم، واليه المرجعُ يومَ القيامة فينبئكم بأعمالكم، ويذهبُ كل إنسانٍ الى مصيره المحتوم‏.‏

ان عِلمه محيطٌ بهذا الكون العجيب لا تخفى عليه خافية، وإن علمه لَيخترقُ الأنفس فيعلم ما في نفوسكم مما تُسرون وتعلنون، ‏{‏والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فلا تخفى عليه خافية‏.‏

الم تبلُغكم أيها الجاحدون اخبارُ الأمم السابقة من قبلِكم كقومِ نوحٍ وهود وصالح ولوط وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حلَّ بهم أشدُّ العقاب والدمار، ولهم في الآخرة عذابٌ أشدُّ واعظم‏!‏‏؟‏

لقد اصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الانكار وقالوا ‏{‏أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏؟‏‏}‏ يرشدوننا وهم مثلُنا‏!‏‏!‏ فانكروا بعثهم ‏{‏وَتَوَلَّواْ واستغنى الله‏}‏ عنهم، ‏{‏والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين، وهو الحقيق بالحمد على ما انعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

زعم فلان كذا‏:‏ ادّعى علمه بحصوله، واكثر ما يُستعمل الزعم للادّعاء الباطل‏.‏ النور‏:‏ هو القرآن الكريم‏.‏ يوم الجمع‏:‏ يوم القيام‏.‏ يوم التغابن‏:‏ هو يوم القيامة، وسُمي بذلك لأن اهلَ الجنة تغبن فيه اهل النار بما يصير اليه اهل الجنة من النعيم وما يلقى اهل النار من العذاب في الجحيم‏.‏ وأصل الغَبن‏:‏ النقص، غبن فلان فلاناً في البيع‏:‏ نقصه حقه‏.‏ والخلاصة أنه في ذلك اليوم يظهر الريح والخسران، فيربح المؤمنون، ويخسر الجاحدون الكافرون‏.‏

‏{‏زَعَمَ الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

في الآيات السابقة ذكر اللهُ إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة، وبيّن ما لقيَه المنكرون وما سيلقون‏.‏ وهنا يبين إنكارهم للبعث والجزاء، فقل لهم يا محمد‏:‏ ليس الأمر كما زعمتم، إني أُقسم بربي لتُبعَثُنَّ بعد الموت، ولَتُجزَوْنَ بما عملتم في الدنيا وتحاسَبون عليه، ‏{‏وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏، فهو كما خَلَقَكم سيُعيدكم‏.‏

ثم بعد ان بيّن لهم الحقائق طالبَهم بالإيمان، وذلك لمصلحتهم ولخيرهم فقال‏:‏

‏{‏فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا‏}‏ ما دام البعثُ حقا، فصدَّقوا ايها الناس بهذا الإله العظيم وبرسوله الكريم، وبهذا القرآن الذي هو نور أضاءَ الكونَ بهدْيه، واخرجَ العالَمَ من الظلمات الى النور، ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فلا تخفى عليه اعمالكم‏.‏

ثم أنذر بأنه تعالى يجمعهم يومَ القيامة، يوم يظهر ربح الرابحين وخسران المبطلين فقال‏:‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن‏}‏

في ذلك اليوم يُغبن الكافرون ويربح المؤمنون، وما أعظمه من ربح‏!‏‏!‏ انه لا غبنَ أعظم من ان قوما ينعمون، وقوما يعذَّبون، ذلك هو الخسران المبين‏.‏ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُذهب عنه سيئاته ‏{‏وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم‏}‏ ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

ثم بين الله تعالى الجانبَ المقابل وهم أهلُ النار فقال‏:‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير‏}‏‏.‏

فهؤلاء جزاؤهم النارُ لكفرهم وتكذيبهم الرسلَ وإنكارهم المعجزات، وبئس النارُ مصيراً لهم‏.‏

وبعد ان بين مصير الناس وأنهم قسمان‏:‏ كافر بالله مكذِّب لرسله ومصيرُهُمْ النار، ومؤمن بالله ومصدّق لرسله ويعمل الصالحات فهو من اهل الجنة- بيّن هنا أمراً عظيما بقوله‏:‏

‏{‏مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ان ما يصيب الانسان من خير او شر إنما يكون بقضاء الله وقدَره بحسب النُظم التي وضعها للكون‏.‏ فعلى الانسان ان يجدَّ ويعمل، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء‏.‏ على المرء ان يبذل جهده ويسعى في جلب الخير ودفع الضُرّ ما استطاع الى ذلك سبيلا، وان يتوكل على الله ويؤمن به خالص الايمان‏.‏

‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ فالايمان يضيء القلبَ ويشرح الصدر لخير العمل، وأيّ نعمةٍ أعظمُ من هذه النعمة‏!‏‏!‏‏.‏

ثم يا ايها المؤمنون أطيعوا الله فيما كلّفكم به، وأطيعوا الرسول فيما بلّغ عن ربه، فإن أعرضتم فلن يضرّه إعراضكم ‏{‏فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين‏}‏‏.‏ وقد تقدم مثل هذه الآية اكثر من مرة‏.‏

ثم يبين الله تعالى تفرُّدَه بالمُلك والخلق والقدرة، وأن علينا ان نتوكل عليه

‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏‏.‏

توكلنا على الله وهو حسبُنا ونعم الوكيل‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ يوم نجمعكم بالنون، والباقون‏:‏ يجمعكم بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

فتنة‏:‏ بلاء ومحنة توقع في المهالك‏.‏ ومن يوقَ شحّ نفسه‏:‏ ومن يحفظ نفسه من البخل‏.‏ الشح‏:‏ البخل مع الحرص‏.‏ ان تُقرضوا الله‏:‏ ان تتصدقوا على المحتاجين من الناس‏.‏ شكور‏:‏ يثيب الشاكرين‏.‏

بعد ان أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول الكريم، وان يتوكلوا عليه، ولا يعتمدوا غير ذلك- جاء هنا في هذه الآيات الكريمة يهذّبهم ويعلّمهم بألطف توجيه، أنَّ الأولادَ والزوجات فتنة للانسان اذا ما شُغل بهم وانصرف يجمع المالَ لهم ويكدّسه، لا همّ له الا النفقة عليهم- باتَ مثل الحيوان في الغاب، فان الأسد يفترسُ حتى يطعم عياله، وكذلك بقية الحيوانات‏.‏

فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا ان نُعِين المحتاجين، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا، فلا نعيش لأنفسنا فقط‏.‏

‏{‏إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم‏}‏

فارعوهم حق الرعاية، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب، واحذروا ان يخرج بعضهم عن الطاعة، وتلطّفوا معهم‏.‏ ولذلك قال‏:‏

‏{‏وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏

ما أرحمه وما اعظمه‏!‏ كيف يعلّمنا ويهذبنا، بان نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة‏.‏

وان كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات‏.‏

ثم كرر الله تعالى التحذير فقال‏:‏

‏{‏إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏

فاحذروهم ولا تُلهينَّكم اموالُكم وأولادكم عن عمل الخير، والسعي في سبيل الله‏.‏ إن كثيراً من أصحاب الأموال ساهون لاهون عن عمل الخيرِ، كلُّ هَمِّهم أنفسُهم وأولادُهم وزوجاتهم‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ «ان لكل أمةٍ فتنةً، وفتنةُ أمتي المال» رواه احمد والترمذي وغيرهما عن كعب بن عياض‏.‏ وهذا ما يجري اليوم، وقد فتح الله على الأمة العربية ابواب الخيرات وجاءهم المالُ بدون حساب، ونراهم يبذّرونه على أنفسِهم ومُتَعِهم ولا ينفقون منه في سبيل الله والدفاع عن أوطانهم والاستعداد لعدوهم الذي يهدّد كيانهم، بل يكدّسون المال عند الاعداء، ولا ينتفع منه الا العدو، هدام الله‏.‏

‏{‏والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏

لمن آثَرَ محبَّته على محبةِ المال والأولاد، ونفعَ به المحتاجين، وأنفق منه في سبيل الله والوطن‏.‏

ثم يعلّمنا وينبّهنا الى ان نستيقظ ونعمل بقدر ما نستطيع فيقول‏:‏

‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ‏}‏

فالتقوى تكون بالعمل الصالح المفيد، والانقياد لأمر الله والرسول‏.‏ اهتدوا بهدي الاسلام ايها المؤمنون، وجُودوا بالمال قبل ان تذهبوا ولا تأخذوا منه شيئا، ويبقى للورثة يختصمون فيه‏.‏

‏{‏وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ‏}‏

هنا يكرر الأمر بالانفاق من الاموال، لأنكم ايها المؤمنون ستندمون اذا ذهبتُم وتركتم وراءكم الأموال مكدَّسة، لم تنفعوا بها الفقراء والمحتاجين، ولم تبذلوا منها للمصلحة العامة والجهاد في سبيل الله‏.‏

ثم زاد الحثّ على الانفاق باسلوب لطيف فقالك

‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون‏}‏‏.‏

والسعيدُ منكم أيها الناس هو الذي يتغلب على نفسه ويتقي بُخْلَها الشديد، فينفق في سبيل الله، وفي سبيل وطنه وأمته، فيكون من المفلحين في الدنيا والآخرة‏.‏

ايها الناس، ان الاغنياء في الغرب يُنفقون معظم ثرواتهم على عمل الخير، على البحث العلمي الذي هو مفقود عندنا، وعلى المستشفيات والجامعات والمصالح الخيرية‏.‏ والاغنياء عندننا ينفقون على أنفسِهم ويبذّرون اموالهم في الأعراس والحفلات التي تُغضب الله، وعلى ملذاتهم وشهواتهم ومقامراتهم ومغامراتهم مما لا يجدي نفعا‏.‏ ‏{‏إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ثم تلطف جلّ جلاله وبالغ في الحث على الانفاق بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏

هل يوجد أجملُ من هذا الاسلوب‏!‏ والله تعالى هو الغني، له كل ما في السموات والارض، ولكنه يطلب ان نجود بالمال على الفقراء والمحتاجين، في بناء مجتمعنا وفي سبيل الله حتى سمى ذلك قَرضا‏.‏‏.‏ وهو الغنيّ عن العالمين‏.‏ والله يضاعف للمنفق الحسنةَ بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف، ويغفر لكم ما فَرَطَ من ذنوبكم، والله عظيم الشكر والمكافأة للمحسنين، حليمٌ فلا يعجّل بالعقوبة على المذنبين‏.‏

‏{‏عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم‏}‏

ختم هذه السورة الكريمة بأحسنِ ختام وألطفِ تعبير، وهو ذو العزة والقدرة يضع كل شيء في موضعه، ويصرّف كل شيء بأمره وحكمته وتدبيره‏.‏

سورة الطلاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

اذا طلقتم النساء‏:‏ اذا اردتم ان تطلقوا النساء، وهذا التعبير جاء في القرآن مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏ يعني اذا اردت ان تقرأ القرآن‏.‏ فطلقوهن لعدتهن‏:‏ يعني طلقوهن بعد طُهرٍ من الحيض دون ان تمسّوهن حتى لا تطول عليهن العدة، والعدة هي الزمان الذي يجب على المرأة ان تبقى فيه دون ان تتزوج‏.‏ وأحصوا العدة‏:‏ اضبطوها، حتى يتبين ان المرأة ليست حاملا‏.‏ فاحشة مبينة‏:‏ معصية ظاهرة، مثل الزنا او السرقة او ان تطيل لسانها على أقارب زوجها وغير ذلك‏.‏ حدود الله‏:‏ شرائعه‏.‏ فاذا بلغن أجلهن‏:‏ اذا اتممن العدة‏.‏

‏{‏ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وجّه الله تعالى الخطاب الى النبيّ الكريم ليُفهِم المؤمنين جميعا، أن يتقيدوا بأحكام الشريعة، فاذا اراد احد ان يطلّق زوجته فإن عليه ان يراعي وقتَ طُهرها من الحيض فيطلّقها وهي طاهرة حتى لا تطول عليها مدة العدة‏.‏ ثم اكد ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ اعرفوا ابتداءها وانتهاءها‏.‏ ‏{‏واتقوا الله رَبَّكُمْ‏}‏ بمحافظتكم على أوامره، لأنها لمصلحتكم‏.‏

ثم بين لنا أشياء يجب ان نتّبعها محافظةً على تماسك الأسرة ودوام حياتها فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ‏}‏ يعني ان المطلقة تبقى في بيتها حتى تنقضيَ العدة‏.‏ وهناك حكمة بالغة في إبقاء المطلقة في بيتها، وهي‏:‏ عسى ان يراجعَ الزوج رأيَه، ويعاودَ أمره، فيراجعَ زوجته وتعود الحياة الى مجراها الطبيعي‏.‏ وفي ذلك مصلحة كبرى للطرفين‏.‏

‏{‏وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏

ولا يجوز ان يتخرج المطلقة من بيتها إلا اذا انتهت العِدة، فلا تأذنوا لهنّ بالخروج اذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسِهن إن أردْن، ولكنه استثنى من لزوم البقاء في بيوت الزوجية اذا دعت الضرورة لذلك كأن فعلتْ ما يوجِب حدّاً كالزنا او السرقة او أطالت اللسان على الأحماء ومن في البيت من سوءِ خلقها، فيحل عند ذلك إخراجها من البيت‏.‏

ثم بين الله تعالى عاقبة تجاوز حدود الله فقال‏:‏

‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏

هذه التي بينها لكم من الطلاق للعدة واحصائها وما يترتب على ذلك‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ بعدم تمسّكه بأوامر الله وشرعه‏.‏

ثم لمّح الى حكمة بقائها في البيت فقال‏:‏

‏{‏لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏‏.‏

أنتَ لا تعلم ايها المرء ماذا يحصل، ولا تعلم ان الله يقلّب القلوب، فيجعل في قلبك محبةً لها، فتندم على طلاقها وفراقها، ولعلك تراجعها وتعود المياه الى مجاريها‏.‏

روى البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عَنْهُمْ «انه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله، فتغيّظ منه ثم قال‏:‏ لِيراجعْها ثم يمسكْها حتى تطهُر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له ان يطلّقها فليطلقها قبل ان يمسّها، فتلك العِدةُ التي أمَرَ اللهُ ان تطلَّق لها النساء‏.‏

والشريعة الإسلامية، وان اباحت الطلاق- قد بغّضت فيه وقبّحته وبينت انه ضرورة لا يُلجا إليها الا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاءِ رباط الزوجية الذي هو أوثق رباط، والذي حبّبتْ فيه وجعلته من أجلّ النعم، وسماه الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّيثَاقاً غَلِيظاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 21‏]‏ والأحاديثُ كثيرة على التحذير من الطلاق والبعد عنه ما امكن للضرورة‏.‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏‏.‏

بعد أن أمرَ اللهُ تعالى بأن يكون الطلاق حسب ما أمَرَ به وان يكون طلقة واحدة رجعيّة، وَمَنَعَ خروج المطلقة من المنزل او اخراجها الا اذا أتت بفاحشة، ونهى عن تعدِّي تلك الحدود حتى لا يحصَلَ الضرر والندم- خيَّرَ هنا الرجلَ بين أمرين إذا شارفتْ عدةُ امرأته على الانتهاء‏:‏ إما ان يراجعَها ويعاشرَها بالمعروف والإحسان، وإما أن يفارقَها مع أداءِ حقوقها التي لها ويُكرمها بقدر ما يستطيع‏.‏

ثم أمر بالإشهادِ على ذلك فقال‏:‏

‏{‏وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ‏}‏‏.‏

يعني اذا راجع المرء زوجته عليه ان يُشهِد اثنين من العدول، واذا فارقَها كذلك‏.‏ وخاطب الشهودَ بأن يشهدوا على الحق ويؤدوا أمانتهم، وهي الشهادة، على وجهها خالصة لله‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏

هذا الذي امرتكم به من امر الطلاق يتعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيعمل به ولا يخرج عن طاعة الله‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏

ومن ثم يأتي الله تعالى بهذا الكلام اللطيف المطمئن، يخبر فيه جلّ جلاله ان من يخشى الله ويتقيه ويتقيد بأوامر الشريعة يجعلْ له مخلصا من كل ضيق في الدنيا والآخرة، ويهيّيء له من اسباب الرزق من حيث لا يخطر له على بال‏.‏

فالتقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادةُ في الدارين‏.‏

روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال‏:‏ أجمع آيةٍ في القرآن‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ وان اكبر آية في القرآن فَرَجاً‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً‏}‏‏.‏

ومن أخَذ بالاسباب واخلص في عمله وتوكل على الله فان الله تعالى يكفله ويكفيه ما أُهمه في دنياه واخراه‏.‏‏.‏ وهكذا يجب ان تفهم هذه الآية الكريمة، فليس معنى التوكل ان يقعد المرء ولا يعمل ويقول توكلت على الله‏.‏ ولذلك قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اعقِلها وتوكل» إن الله تعالى بالغٌ مرادَه، منفذٌ لمشيئته‏.‏

‏.‏ وقد جعل لكل شيء وقتا مقدَّرا بزمانه وبمكانه، وبملابساته وبنتائجه واسبابه، وليس في هذا الكون شيء تمّ مصادفة، ولا جزافا، ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏{‏واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏‏.‏

والنساء اللاتي بلغن سن اليأس وانقطع عنهن الحيضُ فعدّتهن ثلاثة اشهر‏.‏ وكذلك الصغار اللاتي لم يحضْنَ فإن عدتهن ثلاثة اشهر‏.‏

وأما الحامل فإن عدّتها تنتهي عند وضع الحمل، سواء أكانت مطلقة او متوفًّى عنها‏.‏

‏{‏وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏

هذا هو حكم الله تعالى في العِدة وانواعها‏.‏

ثم أكد الله تعالى على التقوى وأنها رأسُ كل شيء، من تحلّى بها فقد فاز فوزا عظيما ويسّر الله له أمره فقال‏:‏

‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً‏}‏‏.‏

فالتقوى هي المخرج من كل ضيق، واي فضلٍ أعظمُ من هذا‏؟‏

ثم كرر الله تعالى الأمرَ بالتقوى لأنها ملاكُ الأمر وعماده في الدنيا والآخرة فقال‏:‏

‏{‏ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً‏}‏‏.‏

هذا الذي شرع لكم من الأحكام هو أمرُ الله الذي انزله اليكم لتسيروا على منهجه، وتعملوا به، ومن يتق الله بالمحافظة على أحكامه يكفّر عنه جميع خطاياه، ويجزل له الثواب العظيم ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ بالغ أمره بضم الغين وكسر الراء من امره على الاضافة‏.‏ والباقون‏:‏ بالغٌ امرَه بضم الغين والتنوين، ونصب أمره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

من وُجدكم‏:‏ من قدرتكم، مما هو موجود عندكم، على قدر طاقتكم‏.‏ ولا تضارّوهن‏:‏ لا تلحقوا بهن ضررا‏.‏ لتضيِّقوا عليهن‏:‏ بالنفقة والسكن حتى تلجئوهنّ الى الخروج من المسكن‏.‏ وأتمِروا بينكم بمعروف‏:‏ وتشاوروا وتعاملوا ببينكم بما تعارف الناس عليه من سماحة وعدم تعنت‏.‏ وان تعاسَرتم‏:‏ وان لم تتفقوا وضيق بعضكم على بعض كطلق زيادة الأجر وغير ذلك‏.‏ فسترضعُ له أخرى‏:‏ فيمكن ان ترضع المولود امرأة اخرى بأجر مقبول‏.‏ ومن قُدر عليه رزقُه‏:‏ ومن كان رزقه قليلا، يعني فقير الحال‏.‏ فلْيُنفِقْ مما آتاه الله‏:‏ ينفق بقدر ما عنده‏.‏ فالنفقة والسكن واجبة للمعتدّة مدة العدة‏.‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏

أسكنوا المطلقاتِ مدة العدة في بيوتكم التي تسكنونها وأنفقوا عليهن مما هو موجود عندكم، كلّ حسب قدرته‏.‏

‏{‏وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ‏}‏

لا تُلحقوا بهن ضرراً بأن تُسكنوا معهن أحداً لتضيّقوا عليهنّ، تعجيلاً بخروجهنّ من المسكن‏.‏

‏{‏وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏‏.‏

واذا كانت المطلقة حاملاً فيجب على الذي طلقها ان ينفق عليها ويُسكنها في داره نفقةً حسب قدرته حتى تضع حملها‏.‏

ثم بين الله تعالى حكم ارضاع الطفل بعد ولادته فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏

عندما تضع المطلقة مولودها تكون قد انتهت عِدتها، وهي غير ملزمة بأن تُرضع ولدها، فان أرضعته فعلى والده ان يدفع لها أجرها، لأن حق النفقة والرضاع للأولاد على آبائهم‏.‏

ثم حث الله تعالى على المعاملة بالمعروف بين الطرفين فقال‏:‏

‏{‏وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ‏}‏

تعاملوا أيها الآباء والمهات فيما بينكم بالسماحة والأخلاق العالية، لأن في ذلك مصلحةً كبرى للطفل ورحمة به‏.‏ فلا تجعلوا المال عقبةً في سبيل إصلاحهم‏.‏‏.‏ على الآباء ان يجودوا بالأجر والنفقة، وعلى الأمهاتِ ان يتساهلن ولا يخرجن الآباء‏.‏‏.‏ وذلك كله في مصلحة ابنائهم‏.‏

ثم ارشد الى ما يجب عمله اذا لم يحصل والوفاق بين الأبوين على الأجر والانفاق فقال‏:‏

‏{‏وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى‏}‏‏.‏

وان لم تتفقوا ووقع بينكم خلاف كأن لم يقبل الأب أن يدفع الجرَ المطلوب، او اشتطت الأم في طلب زيادة الأجر، فعلى الأب ان يبحثَ عن امرأة اخرى ترضع له مولوده‏.‏ فاذا لم يقبل المولود غير ثدي أمه وجَبَ على الأم ان ترضعَه بأي أجرٍ كان‏.‏

ثم بين الله تعالى مقدار الانفاق وكيفيته بحسب طاقة كل أب فقال‏:‏

‏{‏لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله‏}‏‏.‏

هذا هو مبدأ الاسلام العظيم‏:‏ اليسر والتعاون والعدل‏.‏‏.‏ على كل انسان ان ينفق بقدر طاقته وحسب مقدرته، فمن وسّع الله عليه الرزق فلينفقْ عن سعة في السكن والنفقة واجر الرضاع، ومن كان رزقه ضيقا فلا حرج عليه، فلينفق بقدر ما يستطيع‏.‏

هذه هي القاعدة الذهبية في المجتمع الاسلامي العظيم‏.‏ وكما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ آخر سورة البقرة‏.‏

ثم جاء في تعبير لطيف بين فيه ان الارزاق تتحول من عسر الى يسر، وأن اليسر دائماً مأمول فلا تخافوا ولا تضيِّقوا على انفسكم فقال‏:‏

‏{‏سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً‏}‏‏.‏

ان الله تعالى سيجعل من بعد الشدة رخاء، ومن بعد الضيق فرجا، فكونوا دائما مؤملين للخير، فالدنيا لا تدوم على حال‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5-6‏]‏ ولن يغلب عسر يسرَين‏.‏ وإنها لبشارة للناس، ولمسة فرج، وافساح رجاء للمطلِّق والمطلقة وللناس جميعا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

وكأين من قرية‏:‏ كثير من القرى كفرَ اهلها‏.‏ عتت‏:‏ تجبرت، واستكبرت‏.‏ نُكرا‏:‏ منكرا‏.‏ وبالَ أمرِها‏:‏ عاقبة امرها‏.‏ خُسرا‏:‏ خسارة‏.‏ ذِكرا‏:‏ قرآنا‏.‏ رسولا‏:‏ هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏

لقد تقدّم كثيرٌ من الآيات الكريمة التي تشبه هذه الآياتِ التي خُتمت بها هذه السورة العظيمة بعد ان بيّن فيها شَرْعَ الله في الطلاق والعِدَّة والنفقةِ والسكنِ ونفقةِ المولود وإرضاعه‏.‏

ان كثيراً من أهلِ القرى خالفوا أمر ربهم، فكذّبوا الرسلَ وأعرضوا عن أمرِ ربهم، فحاسبناهم حسابا شديدا، وعذبناهم أشد العذاب، فذاقوا عاقبة أمرِهم، وتجرعوا سوءَ مآلهم، وخسِروا خسراناً كبيرا‏.‏ وفي الآخرة أعدّ الله لهم عذابا بالغ الشدة‏.‏

ولذلك يحذّر الله المؤمنين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ياأولي الألباب‏}‏

ايها المؤمنون العاقلون، اعتبروا بهم واتقوا الله الذي انزل اليكم قرآنا عظيما، وارسل اليكم رسولا كريما هو محمد بن عبد الله عليه صلوات الله، ‏{‏يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ‏}‏ فيها هدى لكم، وبذلك أخرجكم من الظلمات وعبادة الاوثان الى التور، دين الله القويم الذي بيّن لكم الحقَّ من الباطل‏.‏

‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً‏}‏‏.‏

فالإيمان مشروط بالعمل، وأي جزاء احسنُ من الجنة وأي رزق أحسن من رزقها‏!‏

ثم ذكر بعد ذلك عظيمَ قدرته وسلطانه، وبديعَ خَلْقه لهذا الكونِ العجيب الفسيح يجري أمرُه فيه، ‏{‏لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا‏}‏‏.‏ صدق الله العظيم‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

تحرّم‏:‏ تمتنع عن‏.‏ تبتغي‏:‏ تطلب‏.‏ فرض‏:‏ شرع، وبين لكم‏.‏ تحلَّة أيمانكم‏:‏ تحليلها بالكفارة‏.‏ بعض ازواجه‏:‏ حفصة‏.‏ نبأت به‏:‏ اخبرت عائشة به‏.‏ عرف بعضه‏:‏ اعلمها ببعض الحديث الذي أفشته‏.‏ وأعرض عن بعض‏:‏ لم يخبرها به‏.‏ ان تتوبا‏:‏ يعني حفصة وعائشة‏.‏ صغت قلوبكما‏:‏ مالت الى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم واجلال‏.‏ وان تظاهرا عليه‏:‏ تتظاهرا وتتعاونا على ايذاء الرسول‏.‏ ظهير‏:‏ معين‏.‏ مسلمات‏:‏ خاضعات لله بالطاعة‏.‏ مؤمنات‏:‏ مصدقات بتوحيد الله‏.‏ قانتات‏:‏ مواظبات على الطاعة‏.‏ تائبات‏:‏ مقلعات عن الذنوب‏.‏ سائحات‏:‏ صائمات وذاهبات في طاعة الله كل مذهب‏.‏

الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك‏.‏

وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك‏.‏ واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له‏:‏ إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير‏.‏ ‏(‏والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة‏)‏‏.‏

وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك، فقال لها‏:‏ بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش، ولن أعودَ له‏.‏ وأُقسِم على ذلك، فلا تُخبري بذلك أحدا‏.‏

فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا، كما تقدّم، متصافيتَين متفقتين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته‏.‏

وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه‏:‏ يا أيّها النبيّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ قال تعالى ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ ثم بيّن له أنّه يمكن ان يكفّر عن يمينه بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ بالكفّارة عنها‏.‏ وقد رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام كفّر عن يمينه فأعتق رقبة‏.‏ ‏{‏والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم‏}‏

واللهُ متولِّي أمورِكم وناصرُكم، وهو العليم ما يُصلحكم فيشرّعه لكم، والحكيمُ في تدبيرِ أموركم‏.‏

‏{‏وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ‏}‏‏.‏

وقد تمّ شرحُ هذا فيما سبق‏.‏ اما «عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعض» فهو أن الله أطلَع رسولَه على ما دار بين حفصة وعائشة، وأخبر الرسول حفصةَ ببعض الحديث الذي أفشَتْه، وأعرضَ عن بعذ الحديث وهو قولُه‏:‏ وقد حلفتُ‏.‏

‏{‏فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير‏}‏‏.‏

فلما أخبر حفصةَ أنه يعرف ما دار بينَهما استغربتْ وسألتْه‏:‏ من الذي أخبرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ أخبرني به اللهُ العليم بكل شيء، الخبيرُ الذي لا تخفَى عليه خافية‏.‏

ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال‏:‏

‏{‏إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏

إن ترجعا الى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما الى الحقّ والخير‏.‏

ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال‏:‏

‏{‏وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏‏.‏

ان تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر- فلن يضرّه ذلك شيئا، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون‏.‏

ثم حذّرها ألاّ تعودا لمثلِ ذلك بقوله‏:‏

‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً‏}‏‏.‏

احذرْنَ أيتها الزوجات من إيذاء رسول الله والتألُّب عليه، والعملِ على ما يسوؤه فإنه اذا أُحرِج يمكن ان يطلقكن ويبدله الله خيراً منكن في الدينِ والصلاح والتقوى‏.‏ ولا شيءَ أشدُّ على المرأة من الطلاق‏.‏ وفي هذا تنويهٌ كبير بشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قراءات‏:‏

قأ اهل الكوفة‏:‏ تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة‏.‏ وقرأ الكسائي وحده‏:‏ عرف بعضه بفتح العين والراء بلا تشديد، والباقون عرَّف بتشديد الراء المفتوحة‏.‏ وقرأ حفص ونافع وابو عمرو وابن عامر‏:‏ جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة‏.‏ وقرأ ابو بكر‏:‏ جبرئيل بفتح الجيم والراء وقمزة قبل الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قُوا أنفسكم‏:‏ احفظوها، واجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي‏.‏ الوقود‏:‏ حطب النار وكل ما توقد به‏.‏ الحجارة‏:‏ الاصنام التي تعبد من دون الله‏.‏ غلاظ‏:‏ شديدون لا يرحمون‏.‏ توبة نصوحا‏:‏ توبة خالصة‏.‏ واغلُظ عليهم‏:‏ شدد عليهم‏.‏ مأواهم جهنم‏:‏ مكانهم يوم القيامة جهنم‏.‏

بعد ان عالجت الآياتُ السابقة ما يجري في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعاتَبَ الله تعالى الرسولَ الكريم على تحريمه بعضَ ما أحلّ الله له، كما شدّد على نسائه أن يلتزمن الطاعةَ والتوبة والإخلاصَ للرسول الكريم- بيّن هنا للمؤمنين عامةً أن يحفظوا أنفسَهم وأهلِيهم من النار بالتزامِ طاعةِ الله ورسوله، تلك النار التي سيكون وقودُها يومَ القيامة العصاةَ من الناس والحجارةَ التي كانت تُعبَد من دونِ الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏، ويقومُ على أمر هذه النار ملائكةٌ شديدون، يفعلون ما يُؤمرون‏.‏

وفي ذلك اليومِ العصيب يُقال لِلّذين كفروا بربّهم وبرسالة رسوله الكريم‏:‏ لا يعتذِروا اليوم فقد فاتَ الأوان، وانما تَلقَون جزاءَ ما عملتم في الدنيا‏.‏

ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا الى الله ويرجعوا إليه بإخلاص، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار‏.‏ وفي ذلك اليوم يرفعُ الله شأنَ النبيّ والذين آمنوا معه، نورُهم يسعى بين أيدِيهم حينَ يمشون، وبأيمانِهم حين الحساب‏.‏‏.‏‏.‏ حيث يتناولون كُتبَهم بأيمانهم وفيه نورٌ وخير لهم‏.‏

ويسألون ربّهم بقولهم‏:‏

‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏ اللهم أجبْ دعاءنا ولا تخيّب رجاءنا‏.‏

ثم بعد الأمرِ النَّصوحِ والرجوع إليه- أمر رسولَه بالجهاد في سبيل الدعوة فقال‏:‏

‏{‏ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏‏.‏

يا أيّها النبيّ‏:‏ جاهِدِ الكفارَ الذين أعلنوا كفرهم والمنافقين الّذين أبطنوه، بكلّ وسيلةٍ من قوةٍ وحجّة، واشتدَّ على الفريقين في جهادك، ان منازلَهم يوم القيامة في جهنّم وبئس المسكنُ والمأوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ضربُ المثل‏:‏ ذِكر حالٍ غريبة للعِظة والاعتبار‏.‏ تحت عبدَين‏:‏ يعني زوجتين لنبيَّين‏.‏ كريمين‏:‏ هما نوح ولوط‏.‏ فخانتاهما‏:‏ بالكفر والنفاق‏.‏ أحصنتْ فرجَها‏:‏ عفّت عن الفجور فكانت عفيفة‏.‏ فنفخنا فيه‏:‏ فخلقنا فيه الحياة‏.‏ بكلمات ربّها‏:‏ بشرائعه وكتبه‏.‏

يبينُ الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وج ودُهن في بيوت الأنبياء، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته‏.‏ وكذلك امرأة لوط، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة‏.‏ فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما- لم يغيّر منهما شيئاً وذهبنا الى النار‏.‏ وهناك حالة اخرى عكسَ ما تقدم، وهي امرأةُ فرعون آسيةُ بنت مزاحم، كانت زوجةً لرجل من شرار الناس، وهي مؤمنة مخلصة في ايمانها‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين‏}‏‏.‏ وهذا كله يتفق مع قاعدة الاسلام ‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 38‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه‏.‏

وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين، ولزوجاتِ الرسول الكريم، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان، او انه قريبٌ لفلان من الصالحين‏.‏ ولا ينجّي الانسانَ الا عملُه وتقاه وايمانه الخالص، واللهُ وليّ الصالحين‏.‏

سورة الملك

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

تبارك‏:‏ تعالى ربنا عما لا يليق به‏.‏ بيده الملك‏:‏ له التصرف المطلق في هذا الكون‏.‏ ليبلوكم‏:‏ ليختبركم‏.‏ طباقا‏:‏ يشبه بعضها بعضا في الاتقان‏.‏ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‏:‏ لا ترى فيما خلق الله من اختلاف وعدم تناسب واتقان صنعة‏.‏ فارجع البصرَ‏:‏ أعد النظر‏.‏ هل ترى من فُطور‏:‏ هل ترى من نقصٍ او شقوق‏.‏ ثم ارجع البصرَ كرّتين‏:‏ ثم أعد النظر مرة بعد مرة، وليس المراد مرتين فقط‏.‏ ينقلب اليك‏:‏ يرجع اليك‏.‏ خاسئا‏:‏ صاغراً ذليلا‏.‏ وهو حسير‏:‏ وهو كليل، ضعيف‏.‏ بمصابيح‏:‏ بنجوم كأنها مصابيح تضيء‏.‏ رجوما‏:‏ مفردها رَجْم وهو كل ما يرمى به‏.‏ اذا أُلقوا فيها‏:‏ اذا طُرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار‏.‏ شهيقا‏:‏ تنفسا قويا‏.‏ تفور‏:‏ تغلي بشدة‏.‏ تكاد تميَّزُ من الغيظ‏:‏ تكاد تتقطع من شدة الغضب‏.‏ فوج‏:‏ جماعة‏.‏ خَزَنَتُها‏:‏ واحدها خازن، وهم الملائكة‏.‏ نذير‏:‏ رسول ينذركم ويحذركم‏.‏ فسُحقا‏:‏ فبعداً وهلاكا لأصحاب السعير‏.‏

افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه، وأخبر انّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ثم أخبر بأنه خلَقَ الموتَ والحياة لغايةٍ أرادها، هي أن يختبركم أيُّكم أصحُّ عملاً، وأخلصُ نيةً، وهو ذو العزةِ الغالبُ الذي لا يُعجزه شيء، الغفورُ لمن أذنبَ ثم تاب، فبابُ التوبة عنده مفتوح دائماً‏.‏

ثم بيّن الله تعالى انه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان‏.‏ والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر، بل يجوز ان يكون هنا أكثر بكثير، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب‏.‏‏.‏ فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم‏.‏

والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصاية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض‏.‏

ما تَرى أيها الإنسان في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت‏.‏

‏{‏فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏‏.‏

أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع، وفي هذه السماء‏.‏‏.‏ هل تجد اي خلل‏؟‏

‏{‏ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏

ثم أعِد البصرَ مرّاتٍ ومرات، وفكر في هذا الصنع البديع، يرجعْ إليك البصرُ وهو صاغرٌ وكليل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولا يمكن أن ترى فيها أيَّ خللٍ او عيب‏.‏

ثم بعدَ ان بيّن ان هذه السمواتِ وهذا الكونَ كلّه وُجد على نظامٍ دقيق متقَن، وهو مع ذلك الغايةُ في الحسن والجمال والبهاء قال‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير‏}‏‏.‏

إن هذه السماء القريبة منّا والتي نراها- مزينةٌ بهذه النجوم المضيئة، والكواكبُ بهجةً للناظرين، وهدىً للسارِين والمسافرين في البر والبحر، والشهُبُ التي نراها متناثرةً في الليل رُجومٌ للشياطين، وقد أعدَدْنا لهم في الآخرةِ عذابَ النار‏.‏

وكذلك أعدَدْنا لِلّذين كفروا بربّهم عذابَ جهنّم وبئس مآلُهم ومنقَلَبُهم‏.‏ ثم وصفَ هذه النار، بأنّه يُسمع لها شهيق حين يُلقَى فيها الكافرون، وأنّها تفورُ بهم كما يفور ما في المِرجَلِ حين يغلي، وأنها تكون شديدةَ الغيظ على من فيها، وان خَزَنَتَها من الملائكة يَسالون من يدخل فيها‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏؟‏‏}‏ من ربّكم‏؟‏ فيعترفون بأن الله ما عذَّبهم ظلماً، بل جاءهم الرسُل فكذّبوهم‏.‏ ثم يعترفون أيضا بقولهم ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير‏}‏ فاعترفوا بتكذيبهم وكفرهم‏.‏ ولن ينفعهم اعترافُهم، فبُعداً لأصحاب السعير عن رحمة الله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت بتشديد الواو بلا الف‏.‏ والباقون‏:‏ من تفاوت‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ فسحقاً بضم السين والحاء‏.‏ والباقون‏:‏ فسحقا بضم السين واسكان الحاء، وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الغيب‏:‏ كل ما غاب عنا‏.‏ بذات الصدور‏:‏ بما في النفوس والضمائر‏.‏ اللطيف الرفيق بعباده‏.‏ الخبير‏:‏ العالم بظواهر الاشياء وبواطنها‏.‏ ذلولا‏:‏ سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وبما فيها‏.‏ مناكبها‏:‏ طرقها ونواحيها‏.‏ النشور‏:‏ البعث بعد الموت‏.‏ الأمن‏:‏ الاطمئنان وعدم الخوف، وهو اعظم شيء في الوجود‏.‏ مَن في السماء‏:‏ يعني ربنا الاعلى‏.‏ تمور‏:‏ تهتز وتضطرب‏.‏ حاصبا‏:‏ ريحا شديدة فيها حصباء تهلكهم‏.‏ نذير‏:‏ هكذا من غير ياء والاصل نذيري، والمعنى إنذاري وتخويفي‏.‏ نكير‏:‏ كذلك هي نكيري بياء، عذابي‏.‏ صافّات‏:‏ باسطاتٍ أجنحتهنّ في الجوّ أثناء الطيران‏.‏ ويقبضن‏:‏ يضممنها تارة اخرى‏.‏

بعد ان أوعدَ الكفارَ بالعذاب في نارِ جهنم، ووصفَها ذلك الوصفَ المذهل- وعدَ هنا المؤمن الذين يخشَون ربّهم بالمغفرة والأجرِ الكريم‏.‏ وهذه طريقةُ القرآن الكريم‏:‏ الترغيبُ والترهيب، حتى لا يقنَطَ الانسانُ من رحمة ربه‏.‏

ثم عادَ الى تهديدِ الكافرين، وانه تعالى يعلم السرَّ والجَهْرَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ويعلَم ما توسوسُ نفسُ الانسان‏.‏ ثم بعدَ ذلك كله قال ‏{‏وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ كي يذكّرنا دائماً بأنه رؤوفٌ بعباده رحيم‏.‏

ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها، وهيّأها لنا، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن، وما اعظمَها من نِعم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور‏}‏

تمتعوا بهذهِ النعمِ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة‏.‏

ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع انواع العمل، وفي الحديث‏:‏ ان عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم‏:‏ من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ المتوكّلون، قال‏:‏ بل أنتم المتواكلون، انما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله عز وجل‏.‏

وجاء في الأثر‏:‏ «إن الله يحبُّ العبدَ المؤمنَ المحترف»‏.‏

ثم بيّن الله أن الإنسانَ يجب ان يكون دائماً في خوفٍ ورجاءٍ، فذكر انه‏:‏ هل يأمنون ان يحلَّ بهم في الدنيا مثلُ ما حلّ بالمكذّبين من قبلهم‏؟‏ من خسْفٍ عاجلٍ تمورُ به الأرض، او ريحٍ حاصبٍ تُهلك الحرثَ والنسل‏!‏‏؟‏

ثم ضرب لهم المثلَ بما حلّ بالأمم قبلَهم من ضروب المِحَن والبلاء‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ‏}‏

فأهلكهم وخسَفَ بهم الأرض، وبعضُهم أغرقَهم، وبعضُهم أرسلَ عليهم الريحَ الصرصر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ثم بعد ذلك وجّه انظارهم الى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلبَ اليهم ان ينظروا إلى بعض مخلوقاته كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها اخرى، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة اليه‏.‏

فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون مما قصَصْنا عليكم، فهل أنتم آمنون ان ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم فلا يبقى منكم احد‏!‏‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

جند‏:‏ عون، معين‏.‏ في غرور‏:‏ في خداع يخدعون انفسهم‏.‏ ان أمسك رزْقه‏:‏ حبس عنكم المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق‏.‏ لجّوا‏:‏ تعدَّوا الحد‏.‏ في عُتوّ‏:‏ في تمرد وعناد‏.‏ نفور‏:‏ اعراض وتباعد‏.‏ مكباً على وجهه‏:‏ اصل المعنى ان يمشي المرء مطرقا بوجهه الى الارض‏.‏ والمقصود‏:‏ الذي يسير على غير هدى‏.‏ سويًّا‏:‏ معتدلا، مستقيما‏.‏ الافئدة‏:‏ العقول‏.‏ انشأكم‏:‏ خلقكم‏.‏ ذرأكم‏:‏ خلقكم‏.‏ زلفة‏:‏ قريبا‏.‏ سيئت وجوه الذين كفروا‏:‏ قبحت وعَلتها الكآبة‏.‏ تدعون‏:‏ تطلبون، وتستعجلون‏.‏ أرأيتم‏:‏ اخبروني‏.‏ غورا‏:‏ غائرا في الأرض‏.‏ معين‏:‏ جارٍ غزير‏.‏

بعد ان بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من احوال الطير وخلقه، وخوّفهم من خسف الأرض بهم، وارسال الحاصب عليهم بالعذاب- سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع‏:‏ من الذي يعينكم وينصركم ويدفع عنكم العذاب اذا نزل بكم‏؟‏ هل هناك غير الرحمن‏؟‏ والتعبيرُ بالرحمن يدل على ان الله رؤوف بعباده رحيم‏.‏

‏{‏إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ‏}‏ وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به انفسهم‏.‏

ثم سؤال ثان منه تعالى‏:‏ إذا منعَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزق، من يرزقكم غيرُ الله‏:‏ بل تمادى الكافرون في استكبارِهم وبُعدِهم عن الحق‏.‏

ثم ضرب الله مثلاً يبين به الفرق بين المشركين والموحدين فقال‏:‏

‏{‏أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

هل الذي يعيش في الضلال ويتخبط في الجهالة والكفر اهدى سبيلاً، أم الذي آمنَ ويمشي على الطريق المستقيم سالماً من التخبط والجهل‏؟‏ ‏{‏مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ‏؟‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فهذا المكبّ على وجهه هو المشرك، والذي يمشي سويا هو الموحّد، فهل يستويان‏؟‏ قل لهم ايها الرسول ان ربكم هو الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لتسمعوا وتبصروا وتهتدوا، ولكن ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ ولكنكم مع كل هذه النعم فالشاكرون منكم قليل‏.‏ قل لهم منبهاً الى خطأهم وجحودهم‏:‏ ان ربكم هو الذي خلقكم وبثكم في الارض، ومن ثم اليه ترجعون يوم القيامة‏.‏ ومع هذا كله، يسألون الرسول استهزاء وتهكماً فيقولون‏:‏ متى يأتينا العذابُ الذي تعدنا به‏؟‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏

قل يا محمد‏:‏ هذا علمٌ اختص الله به، وانما انا رسول منه جئت لأنذركم وأبين لكم شرائع الله‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ‏}‏‏.‏

الحديث في هذه الآية يكون يوم القيامة، يعني‏:‏ فلما قامت القيامة وحشر الناس ورأى الكفار العذابَ قريبا منهم ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والحزن‏.‏ ويقال لهم ‏{‏هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 14‏]‏ وهذا التعبير جاء ليدلنا على ان يوم القيامة قريب جدا‏.‏

وكما جاء في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47، 48‏]‏‏.‏

قل لهم‏:‏ أخبِروني ماذا تستفيدون إن أماتنيَ اللهُ ومن معي من المؤمنين، او رحمَنا فأخّر آجالنا وعافانا من عذابه‏؟‏ فهل هذا كله يمنع الكافرين من عذابٍ أليمٍ استحقّوه بكفرهم وغرورهم‏!‏‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ آمنا بالرحمن رب العالمين، وتوكلنا عليه في جميع أمورنا، وستعملون اذا نزل العذاب من هو الضال من المهتدي‏.‏ وقد تكرر لفظ الرحمن اربع مرات في هذه السورة ليدل على انه رحيم بعباده، بابه مفتوح لهم دائماً‏.‏

ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بتهديد كبير، ويلمّح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة وذلك بحرمانهم من الماء الذي هو سبب الحياة الأول فيقول‏:‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ‏}‏

قل لهم‏:‏ أخبروني ان ذهب ماؤكم غائرا في الارض ولم تستطيعوا الوصول اليه، فمن يأتيكم بماء عذب جار تشربونه‏؟‏ ولا جواب لكم الا ان تقولوا‏:‏ الله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ تدعون بفتح الدال من غير تشديد‏.‏ والباقون‏:‏ تدعون بتشديد الدال‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ فسيعلمون بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ فستعلمون بالتاء‏.‏

فلله الحمد والمنة، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

وما يسطرون‏:‏ وما يكتبون‏.‏ غير ممنون‏:‏ غير مقطوع‏.‏ فستبصر‏:‏ فستعلم‏.‏ ويبصرون‏:‏ ويعلمون‏.‏ بأيكم المفتون‏:‏ بأيكم المجنون الذي ابتلي بآراء فاسدة‏.‏ ودُّوا لو تدهن‏:‏ احبوا ان تداري وتلين لهم بالمصانعة والمقاربة بالكلام‏.‏ فيدهنون‏:‏ فيقاربون ويدارون‏.‏ والمداهنة‏:‏ ان يُظهر الرجل في امره خلاف ما يضمر‏.‏ ولا تطع كل حلاف مهين‏:‏ حلاف كثير الحلف، مهين‏:‏ محتقر، حقير‏.‏ همّاز‏:‏ عياب طعان‏.‏ مشّاء بنميم‏:‏ كثير الوشاية والنميمة بين الناس‏.‏ مناع للخير‏:‏ بخيل، ويمنع الناس من عمل الخير‏.‏ معتد‏:‏ ظالم‏.‏ أثيم‏:‏ كثير الذنوب‏.‏ عُتلّ‏:‏ فظ، غليظ القلب‏.‏ زنيم‏:‏ دعيّ، يُعرف بالشر واللؤم‏.‏ سنسِمه على الخرطوم‏:‏ نجعل له علامة على أنفه‏.‏

ن‏:‏ حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور، وقد تقدّم الكلام عليها‏.‏

أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت ‏{‏اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها، لينفيَ عن رسول الله ما كان يقوله المشركون عنه بأنه مجنون، فيردّ الله عليهم بقوله‏:‏

‏{‏مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏‏.‏

لستَ يا محمد مجنوناً كما يزعمون، فقد أنعم اللهُ عليك بالنبوّة والرسالة، والعقل الراجح‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏

إن لك على ما تَلْقاه في تبليغ الرسالة الأجرَ العظيم الدائم الّذي لا ينقطع أبدا‏.‏

‏{‏وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏

وهذه اكبرُ شهادة من عند ربّ العالمين‏.‏ وهل هناك أعظمُ من هذه الشهادة للرسول الأمين الذي طُبع على الحياء والكرم والشجاعة والصفْح والحِلم وكل خلُق كريم‏!‏‏.‏

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ «خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ‏؟‏ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه‏؟‏»‏.‏

وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت‏:‏ «ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً، ولا ضرب بيدِه شيئا قط الا ان يُجاهِد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ الا كان أحبُّهما اليه أيسَرَهما‏.‏ وكان أبعدَ الناس عن الإثم، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه الا أن تنتَهك حرماتُ الله»‏.‏

ثم بعد ان نفَى عنه ما يقوله المشركون، ومدَحه بشهادةٍ عظمى، جاء يطمئنُهُ بأنه هو الفائز وأنهم هم الخاسرون فيقول‏:‏

‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون‏}‏

ستعلمُ أيها الرسولُ، وسَيعلمُ الكافرون الجاحدون من هو الضالّ المفتون‏.‏

ثم أكد ذلك بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏

وهذا وعدٌ من الله يشير الى أن المستقبلَ سيكشف عن الحقيقة ويُثبِت أن هذا الرسول جاءَ برسالةٍ من عند الله، وهو على هدىً وحق، والمشركون على ضلالٍ مبين‏.‏

وقد صدق وعدُ الله وظهرت الحقيقة، ونصره اللهُ وأظهر هذا الدينَ القيّم‏.‏

‏{‏فَلاَ تُطِعِ المكذبين وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏}‏‏.‏

إيّاك أن تلينَ لهؤلاء الجاحدين المكذّبين، فدُمْ على ما أنت عليه، فقد تمنَّوا لو تتركُ بعضَ ما أنتَ عليه وتلينُ لهم وتصانِعُهم فَيَلينون لك طمعاً في تَجاوُبك معهم‏.‏

وقد حاول زعماءُ قريشٍ ان يساوموه، وأن يجمعوا له الأموال، وان يُمَلِّكوه عليهم، وهم لا يَعلمون أن هذا الرسول الكريم فوقَ هذا كلّه، لا يريدُ منهم جزاءً ولا شُكورا، ولا يريد إلا هدايتَهم إلى هذا الدينِ القويم‏.‏

ثم بيّن بعضَ صفات أولئك المكذّبين الذي هانت عليهم نفوسُهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم‏}‏‏.‏

وفي هذه الآيات عدّد تسع صفات من صفات السوء أثبتنا تفسيرَها في أول الكلام على السورة‏.‏ ويقول المفسّرون ان هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان من زعماء قريش الأثرياء‏.‏ وهناك أقوال كثيرةٌ لا حاجة الى إيرادها، فالآياتُ عامة في كلّ من يكذِب ويحلِف كذبا، وينمُّ ويمشي بالسوءِ بين الناس، ويثير الفتنَ والشرَّ بينهم‏.‏ وهذه الأصنافُ من البشَر موجودةٌ في كل زمانٍ فَلْنحذَرْها ونتقي شرّها‏.‏

وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه ان ينقلَ إليه أحدٌ منهم ما يُغيِّر قلبه على صاحبٍ من أصحابه‏.‏ وكان يقول‏:‏ «لا يبلّغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئا، فإني أُحبّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليمُ الصدر»، رواه ابو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏.‏

وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا يدخلُ الجنةَ فتّان» والفتان هو النمّام‏.‏

وهناك أحاديثُ كثيرة تحذّر من هذه الأخلاق الفاسدة، فالإسلامُ جاء لينقِّيَ الأخلاقَ، ويعلّم الناسَ الخير، ورفيعَ الاخلاق، والمعاملةَ الطيبة، وحُسنَ المعاشرة، وهو يشدِّد في النهي عن الخلُق الذميم الوضيع‏.‏

وكان صاحبُ هذا الخلق الذميم في ايامه ذا مالٍ كثيرٍ وعدد من البنين، وهذا سبٌ كبير في كذبه وسوء خلقه، فلا تطعْه أيها الرسول، فإنه جاحد‏.‏

‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين‏}‏

إنه يكذّب بالقرآن الكريم ويقول عن آياته إنها خرافات من قصص الأولين لا آياتٍ من عند الله‏.‏

وبعد ان ذكَر قبائح أفعاله توعّده بشرٍ عظيم فقال‏:‏

‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم‏}‏

سنجعلُ له وسْماً وعلامةً على أنفه يوم القيامة، أي أنّنا سنفضح أمره حتى لا يخفى على أحدٍ في الدنيا، ثم يأتي يوَ القيامة وعلى انفه وسمٌ ظاهر‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة ويعقوب وابو بكر‏:‏ أأن كان ذا مال، على الاستفهام‏.‏ وقرأ ابن عامر آن كان بمد الهمزة‏.‏ والباقون‏:‏ أ، كان ذا مال كما هو في المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 33‏]‏

‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

بلوناهم‏:‏ اختبرناهم، امتحناهم‏.‏ الجنة‏:‏ البستان‏.‏ ليصرمنّها‏:‏ ليقطفنّ ثمارها‏.‏ مصبحين‏:‏ وقت الصباح‏.‏ ولا يستثنون‏:‏ ولا يقولون‏:‏ ان شاء الله‏.‏ طائفٌ من ربك‏:‏ عذاب من الله، فقد أرسل عليها صاعقة من السماء فأحرقها‏.‏ كالصّريم‏:‏ كالليل المظلم‏.‏ فتنادَوا‏:‏ فنادى بعضهم بعضا‏.‏ ان اغدوا‏:‏ اخرجوا غدوة مبكّرين‏.‏ حَرْثكم‏:‏ زرعكم‏.‏ صارمين‏:‏ قاطعين الثمار‏.‏ يتخافتون‏:‏ يتحدثون بصوت ضعيف، همساً حتى يسمعهم أحد‏.‏ على حَرْد‏:‏ على المنع، اي يمنعون كل احد‏.‏ محرومون‏:‏ حرمنا خير جنتنا بجنايتنا على انفسنا‏.‏ قال اوسطهم‏:‏ أفضلهم رأيا‏.‏ لولا تسبّحون‏:‏ ليتكُم تذكرون الله وتشكرونه على ما انعم عليكم‏.‏ يتلاومون‏:‏ يلوم بعضهم بعضا على اصرارهم على منع المساكين‏.‏ يا ويلنا‏:‏ دعاء على انفسهم بالهلاك‏.‏ طاغين‏:‏ متجاوزين حدود الله‏.‏

إنا امتحنّا كفارَ قريشٍ بأن أغدقنا عليهم النِعَم والأمن لنعلمَ‏:‏ أيشكرون هذه النعم ام يكفرونها، كما اختبرنا اصحابَ الجنّة التي يعرفون قصتها‏.‏

فقد كان لرجلٍ بستانٌ كبير فيه من شتى أنواع الفاكهة، وكان هذا الرجل يتصدَّق منه ويعطي الفقراءَ والمساكين والمحتاجين‏.‏ فلما تُوفي قال أولادُه‏:‏ لو أعطينا الفقراءَ والمساكين من بستاننا هذا لما بقيَ لنا شيء‏.‏ فاتفقوا ان يذهبوا الى جنّتهم صباحاً مبكّرين، وأقسموا بان لا يدخلنّها عليهم مسكين‏.‏

فأرسل الله عليها آفة أحرقتْها وهم نائمون لا يدرون ماذا جرى لها‏.‏ فأصبحت جنتهم سوداء خاوية‏.‏ فلما أصبحوا نادى بعضُهم بعضا ليذهبوا إليها ويقطفوا ثمارها‏.‏ وانطلقوا خِلسة وهم يتهامسون حتى لا يسمع بهم أحدٌ من المحتاجين فيلحقَهم‏.‏ وغدَوا إليها في حماسة وهم يظنّون أنهم قادرون على تنفيذ ما خطّطوا له ‏{‏وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏‏.‏

ولكنّهم فوجئوا عندما رأوها سوداء محترقة خاوية من الثمار فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ لقد سَلَبَنا اللهُ ما رزقَنا‏.‏ فقال لهم ‏{‏أَوْسَطُهُمْ‏}‏ أي أعدلُهم وأرجحهم عقلا‏:‏ أَلم أقل لكم هلاَّ تسبِّحون اللهَ وتشكرونه على ما أَولاكم من النعم، فتؤدوا حقَّ المساكين والمحتاجين‏!‏

وبعد ان سمعوا ما قال أخوهم وثابوا الى رُشدِهم اعترفوا بذنوبهم و‏{‏قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏، وندموا على ما عمِلوا‏.‏ ثم بعد ذلك ألقى كل واحدٍ منهم تَبِعَة ما وقع على الآخر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ‏}‏ ثم نادَوا على أنفسِهم بالويل والثبور، واعترفوا بذنبهم، ورجعوا الى الله، وتابوا، وسألوه ان يعوّضهم خيراً من جنتهم ‏{‏عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ‏}‏ لعلّه يعطينا خيراً من جنّتنا بتوبتنا، ويكفّر عنا سيئاتنا‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ العذاب وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏

هكذا كان عذابُ من خالف أمرَ الله وبَخِل بما آتاه وأنعم عليه، وذلك في الدنيا، أما عذابُ الآخرة فهو أشدّ وأعظم، لو كان قومكَ أيها الرسول يعلمون ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 43‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

تدرسون‏:‏ تقرؤون‏.‏ تخيّرون‏:‏ أصلها تتخيرون بتاءين ومعناها تختارون‏.‏ بالغة‏:‏ مؤكدة مغلّظة‏.‏ إن لكم لَما تحكمون‏:‏ انه سيحصل لكم كل ما تريدون يوم القيامة‏.‏ أيهم بذلك زعيم‏:‏ من منهم الذي يكفل لهم هذا‏.‏ يومَ يُكشف عن ساق‏:‏ يوم الشدة‏.‏ والعرب تكنّي بكشف الساق عن الشدة‏:‏

قد شمّرتْ عن ساقِها فشدّوا *** وجدّت الحربُ بكم فجِدّوا

ترهقهم ذلة‏:‏ تلحقهم ذلة‏.‏

بعد ان ذَكر سبحانه حالَ الذين دُمرت جنتهم في الدنيا، وما أصابهم من النقمة حين عَصَوه- بين هنا حال المتقين وما ينتظرهم من جنّات النعيم الخالدة في الآخرة‏.‏

‏{‏إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم‏}‏ الخالصِ الدائم‏.‏

وعندما سمع كفارُ قريش هذه الآية قالوا‏:‏ إن الله فضّلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ ان يفضّلنا عليكم في الآخرة، فردّ الله تعالى عليهم ما قالوا وأكد فوزَ المتقين فقال‏:‏

‏{‏أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏!‏‏}‏

لا يجوز ان نظلمَ في حُكمنا فنجعلَ المسلمين كالكافرين ونسوّيَ بينهم‏.‏ ماذا أصابكم‏؟‏ كيف تحكمون مثلَ هذا الحكم الجائر‏؟‏

وهل عندكم كتابٌ نزل من السماءِ تقرؤون فيه أنّ لكم فيه ما تختارون‏؟‏ أم أقسَمْنا لكم أيماناً مؤكدة باقيةً الى يوم القيامة‏؟‏ ‏{‏إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ‏}‏ وسيحصل لكم كل ما تشتهون‏.‏

‏{‏سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ‏}‏

اسأل المشركين أيها الرسول‏:‏ من الذي يكونُ كفيلاً بتنفيذ هذا‏؟‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ‏؟‏‏}‏ في دعواهم الكاذبة‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

يوم يشتد الأمر ويصعُب، ويُدعى الكفارُ إلى السجود فلا يستطيعون، كما أنه لن يُجديَهم التلاومُ ولا السجودُ في ذلك اليوم نفعا، فتزداد حسرتُهم وندامتهم على ما فرّطوا فيه‏.‏

ويأتون في ذلك اليوم خاشعةً ابصارُهم منكسرةً تغشاهم ذلةٌ مرهِقة، وقد كانوا يُدعون الى السجود في الدنيا وهم قادرون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فلا يسجدون‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 52‏]‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

ذرني ومن يكذّب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏:‏ كِلْه اليّ واتركه لي، فإني أكفيك أمره‏.‏ بهذا الحديث‏:‏ بهذا القرآن‏.‏ سنستدرجهم‏:‏ سننتقل بهم من حال الى حال‏.‏ وأملي لهم‏:‏ أُمهلهم، وأطيل لهم المدة‏.‏ كيدي متين‏:‏ تدبيري قوي‏.‏ مغرم‏:‏ غرامة‏.‏ مثقلون‏:‏ ثقيلة عليهم‏.‏ صاحب الحوت‏:‏ النبي يونس‏.‏ مكظوم‏:‏ مملوء غيظا‏.‏ العراء‏:‏ الفضاء، الارض الخالية‏.‏ فاجتباه‏:‏ فاصطفاه‏.‏ يُزلقونك‏:‏ ينظرون اليك بغيظ وحنق حتى تزلّ وتنزلق‏.‏ لمّا سمعوا الذِكر‏:‏ القرآن الكريم‏.‏ ذِكر للعالمين‏:‏ تذكير للعالمين‏.‏

اترك يا محمد من يكذّب بالقرآن لي، فإني عالم بما ينبغي ان أفعلَ بهم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ سنُدْنِيهم من العذابِ درجةً بعد درجة فتزدادُ معاصيهم من حيث لا يشعرون، وأُمهلهم بتأخير العذاب، إن تدبيري حين آخذُهم قويٌّ لا يفلت منه أحد‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه‏.‏

وإن أمْرَهم لَعجيب، فأنت تدعوهم الى الله بلا أجرٍ تأخذُه منهم، ‏{‏فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏ فهل كُلّفوا ان يدفعوا أجراً لك فهم من هذه الغرامة مثقلون‏؟‏ وهل عندَهم علمٌ بالغيب فهم يكتبون ما يريدون وما يحكمون‏؟‏‏.‏

ثم بعد ذلك أمر رسولَه الكريم ان يصبر على أذاهم فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

اصبر أيها الرسولُ على قضاء ربك‏.‏‏.‏ لا تكن كيونسَ صاحبِ الحوت حينَ ذهبَ مغاضِبا لقومه فكان من أمرِه ما كان، فنادى ربَّه في الظلمات وهو مملوء غيظا ‏{‏سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87، 88‏]‏‏.‏

ولولا أن تداركته نعمةُ ربه بقَبول توبته لَطُرِحَ في الأرض الفضاء وهو مذموم‏.‏

‏{‏فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين‏}‏ وردّه الى قومه نبيّاً فانتفعوا به‏.‏

ثم بين الله تعالى كيف ظهرتْ عداوتُهم للنبي الكريم، وكيفَ كانوا ينظُرون إليه بحقدٍ وضِيق فقال‏:‏

‏{‏وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏

إنهم لِشدةِ عداوتهم لك ينظُرون إليك بهذه الكراهية حتى لَيكادون يُزِلّون قدمك حسداً وبغضا حين سمعوا القرآن، ثم يزيدون في كُرههم ويقولون إنك لَمجنون‏.‏

وما هذا القرآن الا عِظةٌ وحِكمة وتذكيرٌ للعالمين، والذِكر لا يقوله مجنون، فصدَقُ الله وكذَب المفترون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وحده‏:‏ ليزلقونك بفتح الياء والباقون‏:‏ بضمها، وهما لغتان زَلِق وأزلق‏.‏